المرأة ليست مهنة ولا انتماء سياسي إنها إنسانة هذا المجتمع!
إن من الأمور المسكوت عنها في الثورات العربية، ولست هنا للفصل أو الكلام في جدلية التحقق والامتناع، وإن ظل الزمن يحتم السيرورة مسعى، وهي ما يوازي أو لا ينفك صلة ببعضه، في أن التحرر السياسي المتخذ صورة الدفاع عن الكرامة وإسقاط الدولة البوليسية وطلب العدالة الاجتماعية- الاقتصادية، يتوازى معه التحرر الثقافي بهدم الفساد وجذوره وآلياته، والتحرر الذهني بتهاوي القيم والأفكار والمبادئ نحو بدائل لها قيد التشكل والانبعاث، والتحرر الجسدي وقوفاً ضد انتهاك الجسد ليس من الاعتداء والتعذيب بالمعنى الأمني القمعي بل حتى بالمعنى العميق للرغبة والاختيار والطبيعة.
وقد تنبهت إلى ذلك الكاتبة منصورة عز الدين في مقالتها المهمة "ثورة مزدوجة لحفيدات شهرزاد" بشكل مبكر، وهو ما يتوجب التأكيد عليه وأخذه نحو أقاصيه كمسؤولية اجتماعية وحقوقية وثقافية وسياسية عند كل فرد في المجتمع نفسه أو بالتضامن خارج الحدود.
إذا لي أن أذكر بأن العرب منذ القرن العشرين، وهو ما زلنا نعاني منه –وأرجو أن يكون في نهايته-، حيث دخلوا على الحداثة فجرؤوا على المستوى الحضاري بأقذر فعلتين: تجاهل الماضي (ما قبل الإسلام ما قبل البعثة ما قبل الهجرة !)، وحجب الأنثى ( ليس الإنسانة بل المبدأ والقيمة والفكرة)، وصارت مسألة"الاختلاف مصدر كل الأهوال" (المرنيسي،1994، 147).
وتمثلت هذه الأهوال في ناتج هاتين الفعلتين القذرتين –بالمعنى العميق-: فساد المؤرخين وتدبير المثقفين بالتواطؤ والإحجام، في تكريس"التاريخ الديني" لهدم التاريخ الحضاري، فهل يعقل أن يبدأ التاريخ العربي من تاريخ جماعة دينية؟، بينما ضجت أصقاع الجزيرة العربية وأقاصي حدودها، وهو ما ينطق به الحجر: النقوش واللقى والحفريات لا حماس كاتب!، بما قبل الميلاد في ممالك الشمال والجنوب المتصارعة سيادياً واستثمارياً ومصيرياً مع الأمم السابقة كالآشوريين والكلدان(قبل السريان!) والإخمينيين (قبل الفرس!)، والإغريقيين والرومان (قبل البيزنطيين!)، وتمثل تاريخهم ممالك ثمودية والأنباط وتنوخية وسبئية (قبل المناذرة والغساسنة!).
ويغطي فساد المؤرخين وتدبير المثقفين الفعلة الثانية: حجب الأنثى أو المؤنث، وتطرد من أذهان الرواة والوراقين سوى فكرة غزل (في الشعر!) أو مبدأ شهوة (في السرد!)، ويتم تشويه تاريخ النساء العربيات ملكات وأميرات ومناضلات وقديسات وعاشقات لا تبدأ عند بلقيس أو أروى في اليمن ولا ماوية عند تنوخ ولا زنوبيا في بصرى، ولا هند بنت عامر في الحيرة، ولا هند بنت عتبة في مكة، ولا عنيزة في نجد..
إذا كان قد اختزل التاريخ السابق على الإسلام (سواء بعد الميلاد أو قبله) في وضع المرأة طفلةً عبر جريمة الوأد (القربان البشري للآلهة المكية : مناة)، فإنها في عصرنا الحالي لم يختلف الأمر بالمعنى الرمزي في جريمة الختان (القربان الحداثي)، وإذا تغيرت القيمة الكمية في الحجم والعينة فإن توسعة مفهوم الختان ممنهجة لتشمل ما فوق المادي نحو المعنوي والذهني والسلوكي أي ختان المرأة الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
وقد تكشّف هذا الوأد الرمزي لتاريخ المؤنث بالحجب ومثيله بإغلاق التاريخ الحضاري لصالح التاريخ الديني بوصف ما سبق "نجاسات الأيام" ولزم تطهيرها بتجاهل الماضي، وحجب المؤنث غير أن ما فات هؤلاء المؤرخون والمثقفون أن الأعضاء المبتورة تبقى في الذاكرة تعيش رغم فقدها، وتعاود المطالبة بحقوقها العضوية، وهنا يمكن القول: آن للماضي الصامت النطق، وللمحجوب المؤنث التمزيق لستارات التاريخ الكاذبة..
فقد يتعين علينا عندما نرى أكثر من حادثة أو فجيعة موجهة نحو أمثلة ختانية متعددة المقاصد متفقة الهدف صوب المرأة، لا تبدأ بطفلات الشوارع، ولا تقف عند زواج القاصرات، ولا تصل إلى التفرقة الاقتصادية والاجتماعية، ولا تنتهي عند التحرش الجنسي. لتهولنا تلك الذهنية الفاسدة التي شوهت "وأد البنات" ليكن سببه الفقر والتعير لا القربنة والتقدمة بتعمد تزوير وتضليل المعنى التاريخي، والتي تفرض قسراً وعدواناً الختان ليكن قصده العفة والصون لا إبطال الشهو وتشويه الجسد، وهو ما يشمل الذكر بختانه أيضاً إبطالاً وتشويهاً!(مجلة أصوات، العدد3،2012).
وتكشف حوادث التحرش القريبة التاريخ، وهي الدائمة والمستمرة دون رادع، بين خشية الفضيحة الاجتماعية وتواطؤ انتهاك الجسد حقوقياً وأمنياً وسياسياً، وكأنها لا تعد جرائم "خدش الحياء"(أو العنف اللفظي والسلوكي) أو "التحرش الجنسي" (العنف الجسدي والجنسي)حتى تصل "هتك العرض" و"الاغتصاب" فتعد الأخيرتان جريمة إذا يظهر الدليل المادي دون اعتبار لـ"مبدأ الوقاية" بـ"سلامة الجسد" كأولوية حقوقية لكل إنسان وإنسانة!.
من سينسى مشهد التحرش بفتاتين من قبل مجموعة من الفتيان في طريق النهضة بالرياض في السعودية عام 2005 أو مشهد كشوف العذرية للثائرات في ميدان التحرير 5 مارس 2011 ، أو مشهد تحرش أستاذ بطالبات مدرسة مار يوسف في عينطورة بلبنان مايو 2012 ، أو مشهد التحرش بالمسيرة النسائية بالقاهرة 8 يونيو 2012.
من الصعب الصمت حيال هذه الأحداث التي تعد جرائم ضد النساء طفلات وشابات بوصفها أفعال انتهاك صريحة، وإن تعددت أو تخففت أو تغلظت، فهي تتفق أنها "انتهاكات جسدية".
ويتوجب على السياق الثوري الوعي بتلك المسائل المفترض أن تكون من صلب قضايا وملفاته من حيث أن الحريات والحقوق والمبادئ لا تتجزأ.
وحيث أن تحرك الحملات والحركات المقاومة على المستوى الدفاعي والتوعوي والحقوقي مثل منظمة "كفى عنف واستغلال" أو مجموعة"قاومي التحرش" في لبنان أو حملة "اتكسفوا" في القاهرة أو حملة"مش هتكسرونا" يكشف عن هذا الوعي بأن الحريات لا تقف عند حدود كرامة الإنسان أو العدالة الاجتماعية بل "سلامة الجسد" من الأولويات التي لا تقف عند "جسد الأنثى" بل إن "جسد الذكر" تحفظ سلامته من أي انتهاك أيضاً.
وأعرض هنا إلى إحدى الحملات، الجدير بتفعيل دورها وتكريسه، وهي حملة" اتكسفوا" تعرف عن نفسها بأنها "حركة شبابية مستقلة تهدف لوطن خالي من التحرش الجنسي".
وتصف نفسها بأنه "هي حملة أسسها بعض الشباب من الجنسين للوقوف ضد ظاهرة التحرش الجنسي الذي تتعرض له المرأة في مصر والتي انتشرت بشكل مرعب في الآونة الأخيرة مما جعل الشباب القائمين على الحملة بسرعة التحرك من أجل المحاولة لوقف هذه العنف الصريح والموجه للمرأة في الشارع المصري، وقد قررنا أن تأخذ الحملة مساراً مختلفاً عن حملات التوعية المتعارف عليها فتعمل الحملة على شقين :_
1.الجانب القانوني وتعمل الحملة علي حماية المرأة من التحرش عن طريق تفعيل بعض القوانين الموجودة وايضاً تقديم مشروعات قوانين لمجلس الشعب للضمان سلامة النساء في بلدهم
2. الجانب التوعوي عن طريق عمل حملات في الشوارع لمناهضة التحرش وايضاً عن طريق بعض الاطباء النفسين المتطوعين معنا الذين سيقوموا بعمل جلسات علاجية ونفسية للبنات اللاتي تعرضن للتحرش الجنسي".
وأقول: إن التعامل مع هذه الظاهرة السلوكية المشينة بغض النظر عن تعدد أهدافها ومقاصدها البذيئة والساقطة، وأياً كان الجسد المستهدف لفئة جنوسية أو عمرية أو اجتماعية، فهو سلوك مستهجن وكريه، ويتوجب على كل من يرى فيه نفسه مسؤولية علمية أو نشاطية أو إعلامية أو ميدانية بأخ الأمر على محمل الجد من جوانب عدة، لا تبدأ عند التوعية والقانون ولا تنتهي عند الثقافة والسلوك بل تستمر باعتبارها صورة حضارية لا يتنازل أو يتهاون بها بسهولة، وليكن على رأس كل عمل للقضاء عليها شعار"سلامة الجسد".
وأختم بجملة المحامي محمد ياقوت الشدية الذكاء"على فكرة "إمرأة" دي مش مهنة ولا انتماء سياسي! أي والله! المرأة إنسان...تخيلوا؟!".
سأقول معه بصوت عال: تخيلوا !
• اتكسفوا ... عن التحرش والمتحرشين